في يوم الثقافة، بعض من يستحق التكريم

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

ما زال الفلسطينيون في الوطن والمنافي يحيون التراث الشعبي والذاكرة الوطنية بأشكال عديدة، منها السرد الشفوي، المتناقل عبر الأجيال، لما كان وما حصل، ومنها التصوير، والتطريز، والتأليف، والغناء، والرقص، وإبراز كل ما له علاقة بالتراث والفلكلور الفلسطيني.. وما يعزز استمرارية الارتباط بفلسطين، ويقوي الصلة بِـ"الوطن المفقود". 
والتراث الفلسطيني بكل مكوناته وعناصره يشكل جزءا مهما من الثقافة الوطنية بمفهومها العام، والأوسع؛ وفي شهر الثقافة الفلسطينية (آذار)، حيث تنظم وزارة الثقافة فعاليات متنوعة في مختلف أنحاء الوطن، وتحتفي بأسماء وشخصيات لها مكانتها الخاصة في الثقافة الوطنية، رغبتُ بتسليط الضوء على بعض الأسماء والمؤسسات التي لعبت دورا فاعلا في إحياء التراث الشعبي الفلسطيني.
حسب بعض الباحثين، لغاية سبعينيات القرن الماضي، ظلت كل المحاولات الأكاديمية لإحياء التراث الفلسطيني والجهود الإعلامية التي بذلت لحمايته، ظلت جهوداً فردية، أو محدودة التأثير، وينقصها التركيز والمتابعة، وتفتقر إلى التراكمية والاستمرارية.. وبعد ذلك؛ بدأت المؤسسات والمراكز المتخصصة والفرق الفنية بالظهور.
قبل النكبة ﺣﺮﺹ ﺍﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺃﺑﻨﺎء ﻓﻠﺴﻄﻴﻦ ﻋﻠﻰ ﺧﺪﻣﺔ ﺍﻟﺘﺮﺍﺙ الشعبي ﻭﺣﻔﻈﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻀﻴﺎﻉ، فقاموا ﺑﺠﻤﻊ ﺍﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ جوانبه ﺑﺠﻬﻮﺩﻫﻢ ﺍﻟﻔﺮﺩﻳﺔ. ومن هؤلاء الرواد الأوائل: ﺩ. ﺗﻮﻓﻴﻖ ﻛﻨﻌﺎﻥ، ﺣﺴﻦ ﻣﺼﻄﻔﻰ، ﻋﺎﺭﻑ ﺍﻟﻌﺎﺭﻑ.
وبعد ﺍﻟﻨﻜﺒﺔ ﻅﻬﺮ جيل جديد ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺎﺣﺜﻴﻦ، ﻣﺜﻞ ﺩ. ﻋﺒﺪ اللطيف ﺍﻟﺒﺮﻏﻮﺛﻲ، أﺣﻤﺪ ﺍﻟﻐﻮﻝ، شريف كناعنة، عيسى عطا الله، نمر سرحان، عبد الرحمن المزين، وفي مرحلة لاحقة ظهر ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻌﺰﻳﺰ ﺃﺑﻮ ﻫﺪﺑﺎ، خليل حسونة، وغيرهم.. وقد ﺍﺳﺘﻤﺮﺕ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﻬﻮﺩ ﺍﻟﻔﺮﺩﻳﺔ ﺣﺘﻰ بداية ﺍﻟﺴﺒﻌﻴﻨﻴﺎﺕ، ﺣﻴﺚ ﺑﺪأ ﻅﻬﻮﺭ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺎﺕ ﺑﺼﻮﺭﺓ ﺟﻠﻴﺔ (مع استمرار ﺍﻟﺠﻬﻮﺩ ﺍﻟﻔﺮﺩﻳﺔ)؛ ﻓﺄﻗﻴﻤﺖ ﺍﻟﻤﺮﺍﻛﺰ ﻭﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺎﺕ الوطنية ﺍﻟﺘﻲ كان ﻭﻻ يزﺍﻝ لها ﺩﻭﺭ ﺑﺎﺭﺯ ﻓﻲ ﺍﻻﻫﺘﻤﺎﻡ ﺑالتراث ﺍﻟﺸﻌﺒﻲ، ومنها: ﻣﺮﻛﺰ ﺍﻟﺘﺮﺍﺙ ﺍﻟﺸﻌﺒﻲ ﺍﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻲ ﻓﻲ ﺟﻤﻌﻴﺔ ﺇﻧﻌﺎﺵ ﺍلأﺳﺮﺓ (تأسس العام 1972)، ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻄﻔﻞ في اﻟﻘدﺱ، ﺍﻻﺗﺤﺎﺩ ﺍﻟﻨﺴﺎﺋﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺪﺱ، وفي ﺑﻴﺖ ﻟﺤﻢ، وفي ﻏﺰة، مركز المعمار الشعبي - رواق، في البيرة، ﻣﺮﻛﺰ إﺣﻴﺎء ﺍﻟﺘﺮﺍﺙ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﻓﻲ ﻁﻴﺒﺔ ﺍﻟﻤثلث، ﺍﻟﺴﻨﺎﺑﻞ ﻟﻠﺘﺮﺍﺙ ﻓﻲ ﺳﻌﻴﺮ، أرطاس للفنون الشعبية، ﺳﺮﻳﺔ ﺭﺍﻡ ﷲ ﻟﻠﻔﻨﻮﻥ ﺍﻟﺸﻌﺒﻴﺔ، ﻣﺮﻛﺰ ﺍﻟﻔﻨﻮﻥ ﺍﻟﺸﻌﺒﻴﺔ في ﺍﻟﺒﻴﺮﺓ، ومتحف التراث في بيت ساحور، وجمعية صوريف الخيرية في مدينة الخليل، ﺍﻻﺗﺤﺎﺩ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻟﻠﻔﻨﺎﻧﻴﻦ  الفلسطينيين.
ولم تتوقف الجهود عند دور الباحثين والمؤسسات الرسمية؛ فإلى جانبها ظهر أيضا العديد من الفرق الفنية داخل وخارج فلسطين، وأهمها الفرقة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي أبدعت أغاني العاصفة، فرقة العاشقين، فرقة الحنونة، فرقة بلدنا، وغيرها.. وداخل الوطن تأسست العام 1979 "فرقة الفنون الشعبية" بجهود تطوعية لفنانين وفنانات متحمسين. 
ومنذ انطلاقتها، تُوجت "الفنون" كرائدة للرقص الشعبي الفلسطيني، فقدمت أكثر من 1000 عرض محليا ودوليا، برؤية خاصة تجمع ما بين الأصالة والحداثة.
فضلا عن الفنانين والزجالين الفلسطينيين، الذين أبدعوا بغنائهم ورقصاتهم وأشعارهم في إظهار الجوانب الجميلة للتراث الفلسطيني، أبرزهم المرحوم أبو عرب.
ومن المبادرات الفردية التي ظهرت حديثا في سبيل الحفاظ على التراث، مبادرة المصور "أسامة السلوادي"، الذي تمكن من على كرسيه المتحرك، أن يجعل من "التصوير" مشروعا ثقافيا متكاملا، رصد من خلاله ووثق مئات الصور، من الطبيعة، ومن حياة الناس اليومية، وللأزهار والطيور والبيوت العتيقة.. حتى استحق لقب 'موثّق التراث الفلسطيني'.
وإلى جانب الصور، أنجز "السلوادي" عبر مشروعه "العودة إلى الجذور" أكثر من عشرة كتب، تركزت على موضوع التراث الشعبي الفلسطيني، ونقله إلى العالم بكل مهنية واحتراف، حملت كتبه في ثناياها الكثير عن جمال فلسطين، وتراثها الخالد، تنقل بين مواضيع الأزياء الفلكلورية، الحلي والمجوهرات الفلسطينية، المأكولات التراثية، المواسم الزراعية، الحرف اليدوية التقليدية، الطبيعة والبيئة الفلسطينية، الألعاب الشعبية.. ومن بين كتبه: زينة الكنعانيات، ملكات الحرير، بوح الحجار، أرض الورد، الحصار، الختيار..  
وكذلك مبادرة الناشطة والمهتمة في تطوير التراث "مها السقا"، مديرة مركز التراث الفلسطيني في بيت لحم؛ وهو عبارة عن متحف مصغر، أو بيت فلسطيني تراثي قديم. 
وقد نال المركز في العام 2008 جائزة أفضل صورة تمثل دور المرأة عالمياً، ضمن مسابقة أجرتها منظمة السياحة العالمية، التابعة للأمم المتحدة. كما شارك المركز في أكثر من 40 معرض دولي حول العالم، بهدف نشر وإبراز التراث الفلسطيني. 
ومن المبادرات الفردية أيضا، مشروع شابتين فلسطينيتين، من ترشيحا، هما "عُلا وندى خورشيد"، اللتان تنبهتا إلى محاولات سرقة التراث الفلسطيني، وتحديداً التطريز؛ فأخذتا على عاتقهما مسؤولية إحياء هذا التراث بطريقة عصرية، ضمن مشروع أطلقتا عليه اسم "يسمون" (مختصر لبدايات أسماء قرى فلسطينية مهجرة)، والمشروع يهدف لجعل التطريز رفيقاً دائماً للفتاة الفلسطينية، باعتباره "هويّة"؛ وبما أن الفتيات والنساء الفلسطينيات يجدن صعوية في ارتداء الثوب الفلسطيني بصورة دائمة، فإن مشروع "يسمون" يوفر لهن تصاميم لملابس عصرية في إطار تراثي، صالحة لممارسة الحياة اليومية، موشحة بالتطريز الفلسطيني، بالقطب والزخارف الفلسطينية الأصيلة، وبألوان وخيوط عصرية. 
الشقيقتان "عُلا وندى"، فلسطينيتان من لبنان، تديران مشروعهما من بيروت، حيث الأيدي العاملة من نساء مخيمات "صبرا وشاتيلا وعين الحلوة"، وتسوقان ملابسهما في دبي. ("نجمة كنعان:، تحرير: أحمد عزم، فصل سلام عفونة ونورا جبران). 
وأيضا مبادرة الأديبة والفنانة زهيرة زقطان، التي أقامت العديد من المعارض الفنية، وأنجزت العديد من الكتب عن التراث الفلسطيني، كما حولت بيتها لما يشبه المتحف التراثي، بمقتنياته ولوحاته الفنية.
في أدب زهيرة زقطان نلاحظ الوجود المكثف لرموز الحضارة الكنعانية، مثل الآلهة عناة ونساء المعبد، بالإضافة إلى شخوص دينية أبرزها مريم العذراء. وفي تطريزها نلاحظ الزخارف المستلهمة أيضاً من الحضارة الكنعانية، لتكون في كل لوحة قطعة من رواية أو من قصيدة طويلة عن فلسطين الإنسان والتاريخ والمكان.
ومع كل التقدير لهذه الجهود المخلصة، تبقى الحاجة ملحة لمزيد من المراكز والمؤسسات والفرق الفنية، أو لدعم وتفعيل تلك المؤسسات، ودعم هؤلاء الأفراد، لأن التراث الشعبي هو خزنة ذكريات الشعب، وصورته المتخيلة، وواجهته الحضارية.