العبادات التعاملية 'الربا" ماحكم "شركة المضاربة" في الاسلام بالدليل

العبادات التعاملية 'الربا" ماحكم "شركة المضاربة" في الاسلام بالدليل
حجم الخط

القدس - وكالة خبر

                                                بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم

الربا وشركة المضاربة

 الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

القرض الاستهلاكي :

 أيها الأخوة الأكارم، نحن في الإطار العام في موضوع الربا، وقد تحدثنا في دروس ثلاث سابقة عن بديل الربا وهو القرض الحسن، وبينّا أن الربا أساسه الاستغلال، والقرض الحسن أساسه الإحسان، وبينّا أن الربا أساسه اتباع الهوى، لكن القرض الحسن أساسه طاعة الرحمن، واليوم ننتقل إلى موضوع أراه من أخطر موضوعات سلسلة من الدروس لماذا؟ لأن دين الله عز وجل لابد من أن يحل كل مشكلات الإنسان، لو أن نظاماً وضعياً ما عجز عن مواجهة مشكلة فشيء طبيعي لأن الإنسان يخطئ ويصيب.
 لكن دين الله، لكن التشريع الإلهي، المنهج الرباني، هل يعجز عن حلّ مشكلات المجتمع؟ هذا شيء مستحيل عقلاً، فتحدثنا في الدرس الماضي عن القرض الحسن، هذا فيما يتعلق بالتعبير المعاصر بالقرض الاستهلاكي أي إنسان يواجه نفقة طارئة لا يملكها مثلاً عملية جراحية يقترض لها، هذا قرض استهلاكي، ونقول للمقرض: جزاك الله خيراً، أنت إنسان محسن، وأنت إنسان عظيم ورحيم، وأنت ابتغيت الأجر عند الله رب العالمين.

القرض الاستثماري :

 عندنا الآن مشكلة أخرى، عندنا فئة كبيرة في المجتمع تملك المال لكنها متقدمة في السن، أو أنها امرأة لا تقوى على تنمية هذا المبلغ، أو أنه مال لطفل صغير يتيم، أو أنه مال وصاحبه مسافر.
 
إذاً نحن أمام حالة أن إنساناً يملك المال ولا يستطيع أن يستثمره، وعندنا فئة أخرى، شباب في ريعان الشباب مفتولو العضلات يتحرقون على عمل ولا يجدون، أولئك عندهم الأموال ولا يستطيعون أن يعملوا، وهؤلاء عندهم كل طاقات العمل وليس عندهم مال ليعملوا به.
 الدرس الماضي تحدثنا عن قرض استهلاكي لنفقة طارئة، وظننا الخير والكرم بالذي أقرض إقراضاً حسناً، وإن كنت ميسوراً ومعك مال زائد فأعط جزءاً من مالك كقرض حسن لهذا الإنسان المحتاج.
 الحالة اليوم من نوع آخر؛ شاب يحمل شهادة هندسة لكن لا يملك أرضاً يزرعها، لا يملك أية إمكانية ليقيم مشروعاً لكنه خبير، درس خمس سنوات هندسة، وذاك درس خمس سنوات علوماً طبيعية، بإمكانه أن ينشئ معمل صابون، لكن لا يملك مالاً، ولكن بإمكاناته العلمية وخبراته الجيدة وطاقاته الخلاقة ونشاطه في أعلى درجة قادر على إنشاء مؤسسة مثمرة ومنتجة.
 الأول معه المال لكنه متقدم في السن، وهذا الشاب لا يحتاج إلى قرض استهلاكي، يحتاج إلى قرض استثماري، والأول لا يحتاج أن يقرض من دون أن يستفيد، فمن أين يأكل؟ أنت إنسان في بحبوحة أقرضت لوجه الله، والحالة الثانية إنسان معه مئة ألف لا يملك غيرها ولا يستطيع أن يستثمرها، وشاب يحتاج إلى مئة ألف لكنه لا يملكها، أيعقل أن نقول للأول: أقرضه قرضاً حسناً؟ هذا ليس معقولاً لأنه يجب أن يأكل وينفق.

نظام المضاربة :

 من أعظم ما في الشرع نظام المضاربة، هذه شركة قائمة على جهد ومال، المال من جهة والجهد من جهة أخرى، هذا بماله وهذا بعمله وذاك بطاقته، أي يجب أن يبقى في ذهنك أيها الأخ الكريم أن الله عز وجل حينما قال:

﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ﴾

[ سورة المائدة: 3 ]

 دين الله عز وجل دين الخالق، دين رب العالمين كامل وتام، التمام صفة عددية والكمال صفة نوعية، فمن حيث عدد القضايا التي عالجها الدين فعددها تام يغطي كل حركات الإنسان، ونشاطاته، وأحواله في كل حياته، ودين كامل يعالج معالجة وافية وكاملة كل قضية من قضايا الإنسان، والآن كيف نحل مشكلة القرض الاستثماري؟ كيف نحل مشكلة من يملك المال ولا يستطيع أن يستثمره ومن يملك الجهد والطاقة والخبرة ولا يملك المال؟ الشرع الحنيف شرع ما يسمى بشركة المضاربة، المضاربة شركة تقضي حاجتين في وقت واحد، تقضي حاجة صاحب المال الذي لا يستطيع لكبر سنه، أو لصغر سنه، أو لجنسه: أنثى، أو لسفره، أو لجهله أن يستثمر ماله وهو في أمس الحاجة إلى أن يأكل، لا من رأسماله بل من ريع رأسماله، وتحل مشكلة الشاب المفتول العضلات والممتلئ نشاطاً بأن يأكل من خلال عمله، وهذا الشاب لا يقبل صدقة، ولا مساعدة، شاب في أول حياته لماذا الصدقة؟ أروع ما في هذا الدين أنه شرع تشريعاً حكيماً لهؤلاء ولهؤلاء.
 ومن باب البشارة أن النبي عليه الصلاة والسلام بشخصه كان أول شريك مضارب في الإسلام، اتجر بمال خديجة رضي الله عنها، كان أميناً إلى أعلى درجة، وكان وفياً إلى أعلى درجة، فشركة المضاربة تحل مشاكل الناس جميعاً.

المضاربة هي البديل الآخر للربا:

 البنوك ماذا تعمل؟ هي مخالفةٌ للشرع، لكن تحل مشكلة من معه مال ولا يستطيع أن يستثمره، فتأخذ هذا المال وتقرضه بالربا وتدفع لصاحب المال نسبة ثابتةً، لكن شركة المضاربة تحل هذه المشكلة وفق الشرع، ومن خلال قنوات الشرع، وفق منهج الله عز وجل، لذلك فإني دائماً أشجع أخواننا الكرام من الشباب ومن أصحاب الأموال أن يتعاونوا لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالتعاون، قال تعالى:

﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾

[ سورة المائدة: 2 ]

 
البر صلاح الدنيا، أي أجمل ما في الدنيا أن شاباً يعمل بإخلاص وصدق وإتقان ويدفع لصاحب المال ريعاً معقولاً، ويكتسب مالاً حلالاً، ليس فيه شبهة القرض الربوي، ولا شبهة الربح الثابت، ولا شيء من هذا القبيـل، لكن قد يقول قائل: يا أخي هناك كثير من الشركات الاستثمارية وكلها أعطت أرباحاً خيالية ثم أكلت المال وأصله؟ هذا صحيح وطبيعي لأن هؤلاء ليسوا منضبطين بالشرع، وهؤلاء ليسوا مسلمين حقاً، الشرع موضوع للمؤمنين الصادقين، كل إنسان رفع لافتة وقال: أنا مسلم، فهل أصبح مسلماً حقاً؟ كل إنسان ادعى الورع أهو ورع فعلاً؟ كل إنسان ادعى أنه مطبق للشرع أهو فعلاً مطبق للشرع؟ فإذا الناس خاب ظنهم ببعض الشركات التي أعطت أرباحاً خيالية ثم أكلت المال كله فاتجه الناس نحو المصارف والبنوك، فهذا لا يبرر أن نلغي التعامل في موضوع المضاربة، لذلك موضوع درسنا اليوم: المضاربة، البديل الآخر للربا والقرض الاستهلاكي، أول بديل إذا كنت في حاجة إلى قرض استهلاكي كإجراء عملية جراحية أو ترميم بيت مثلاً فهناك إنسان ميسور الحال معه مال فائض نقول له: أيها الغني أقرض هذا الإنسان المؤمن الصادق الطاهر الفقير قرضاً حسناً تبتغي به وجه الله وهذا موضوع الدروس الثلاث السابقة.

 

أصل شركة المضاربة :

 لكنّا اليوم مع إنسان يملك مبلغاً من المال وهو مضطر أن يأكل وينفق، لكن لا من أصل المال، بل من ريعه، وإنسان آخر لا يقبل الصدقة ولا المساعدة، يريد أن يعمل وأن يبني نفسه، وهذا شيء جميل، أفنقول لصاحب المال أقرض أم اجعل بينك وبين هذا الشاب شركة مضاربة منك المال ومنه الجهد والربح بينكما بنسب تتفقان عليها؟ هذا أصل شركة المضاربة، هو البديل لأي مشروع أساسه الربا، وقد بينت لكم في درس سابق لو أننا أتينا بمشروعين اثنين متشابهين من حيث كتلة المال، ونوع العمل، وكل شروط العمل، الشركة الأولى أساسها قرض ربوي، ممولة بقرض ربوي، والشركة الثانية ممولة بعقد مضاربة بين صاحب مال وبين شريكِ عملٍ، أسعار شركة المضاربة أقل بكثير من أسعار الشركة الربوية لماذا؟ لأن فائدة القرض الربوي تضاف إلى الكلف، أما هنا فليس عندهم فائدة القرض الربوي، بل صاحب المال يأخذ من الربح نصيبه. إذاً الأسعار تهبط، ولو حلّتْ شركات المضاربة مكان الإقراض الربوي الاستثماري لهبطت الأسعار، فإلى تفاصيل هذه الشركة التي هي الحل الوحيد لحاجتين متكافئتين، حاجة أصحاب الأموال لاستثمار أموالهم، وحاجة أصحاب الأعمال إلى تأمين تمويلٍ لأعمالهم، إنها شركة المضاربة والنبي عليه الصلاة والسلام سيد الخلق وحبيب الحق كان أول شريك مضارب في الإسلام.

مشروعية شركة المضاربة :

 بعيداً عن مصطلحات الفقهاء، للتعريف اللغوي والتعريف الشرعي، نبدأ بمشروعية هذه الشركة، والله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾

[ سورة المزمل : 20]

 ضرب في الأرض أي سافر يبتغي الرزق، قال تعالى:

﴿ فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾

[ سورة الجمعة : 10]

﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ﴾

[سورة البقرة: 198]

 هذه الآيات الثلاثة، يرى بعض العلماء أن فيها إشارة إلى شركة المضاربة.
 لكن السنة فصلت فالنبي عليه الصلاة والسلام كما تعلمون سافر بمال قبل النبوة، وسافر بمال خديجة رضي الله عنها، والعير التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان، فشركة المضاربة كانت معروفة في العالم العربي قبل بعثة النبي وبعد بعثة النبي، والنبي كان شريكاً مضارباً، إذاً كل شيء فعله النبي هو تشريع.

قصة جرت مع أصحاب رسول الله :

 السنة النبوية كما تعلمون هي أقواله وأفعاله وإقراره، قصة جرت مع أصحاب رسول الله:

((حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ ابْنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي جَيْشٍ إِلَى الْعِرَاقِ فَلَمَّا قَفَلا مَرَّا عَلَى أَبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ وَهُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ فَرَحَّبَ بِهِمَا وَسَهَّلَ ثُمَّ قَال: لَوْ أَقْدِرُ لَكُمَا عَلَى أَمْرٍ أَنْفَعُكُمَا بِهِ لَفَعَلْتُ، ثُمَّ قَالَ: بَلَى هَاهُنَا مَالٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأُسْلِفُكُمَاهُ فَتَبْتَاعَانِ بِهِ مَتَاعًا مِنْ مَتَاعِ الْعِرَاقِ ثُمَّ تَبِيعَانِهِ بِالْمَدِينَةِ فَتُؤَدِّيَانِ رَأْسَ الْمَالِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَكُونُ الرِّبْحُ لَكُمَا فَقَالا وَدِدْنَا ذَلِكَ فَفَعَلَ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا الْمَالَ، فَلَمَّا قَدِمَا بَاعَا فَأُرْبِحَا، فَلَمَّا دَفَعَا ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ قَالَ: أَكُلُّ الْجَيْشِ أَسْلَفَهُ مِثْلَ مَا أَسْلَفَكُمَا قَالا لا فَقَالَ:عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ابْنَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَسْلَفَكُمَا أَدِّيَا الْمَالَ وَرِبْحَهُ فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ فَسَكَتَ وَأَمَّا عُبَيْدُ اللَّهِ، فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا لَوْ نَقَصَ هَذَا الْمَالُ أَوْ هَلَكَ لَضَمِنَّاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَدِّيَاهُ فَسَكَتَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَاجَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: مِنْ جُلَسَاءِ عُمَرَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ جَعَلْتَهُ قِرَاضًا، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ جَعَلْتُهُ قِرَاضًا، فَأَخَذَ عُمَرُ رَأْسَ الْمَالِ وَنِصْفَ رِبْحِهِ، وَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ ابْنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نِصْفَ رِبْحِ الْمَالِ))

[مالك عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ]

 سيدنا عمر بن الخطاب شديد، رأى يوماً إبلاً سمينة قال: لمن هذه الإبل؟ قالوا: هي لعبد الله بن عمر، قال: ائتوني به، جاؤوا به، قال: لمن هذه وهو متجهم الوجه؟ قال: هي لي، اشتريتها بمالي وبعثت بها إلى المرعى لتسمن فماذا فعلت؟ أي يا أبتِ قل لي ما المخالفة التي خالفت بها الشرع؟ البيع حلال والشراء حلال.
 استمعوا ماذا قال سيدنا عمر قال له: ويقول الناس ارعَوْا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين، اسقوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلك يا بن أمير المؤمنين، هل تعرف لماذا سمنت الإبل التي تملكها؟ لأنك ابني، فقال له: بع هذه الإبل وخذ رأسمالك ورد الباقي لبيت مال المسلمين.

من حقّ صاحب المال أن يشترط على المضارب :

 

((الإمام البيهقي روى عن حميد بن عبد الله عن ابن عبيد الأنصاري عن أبيه عن جده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطى مالَ يتيمٍ مضاربةً وكان يعمل به في العراق))

[البيهقي عن حميد بن عبد الله عن ابن عبيد الأنصاري عن أبيه عن جده]

 وروى الإمام مالك:

((عَنِ الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَعْطَاهُ مَالاً قِرَاضًا يَعْمَلُ فِيهِ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا ))

[مالك عَنِ الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ]

 
وروى الإمام الدار قطني:

(( عن عروة بن الزبير وعن غيره أن حكيم بن حزام رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضةً يضرب له به، ألا تجعل مالي في كبد رطبة ولا تحمله في بحر ولا تنزل به في بطن مسيل وإن فعلت شيئاً من ذلك ضمنت لي مالي))

[الدار قطني عن عروة بن الزبير]

 ومن حق صاحب المال إذاً أن يشترط على المضارب ممنوع أن تتجر في البضاعة المهربة، ممنوع أن تسافر به خارج القطر، من حق المضارب أن يشترط على العامل، شريك العمل.
 كان حكيم بن حزام يشترط ألا تجعل مالي في كبد رطبة، تتاجر لي في الغنم وتقول لي: ماتت الغنم، ولا تحمله في بحر فتغرق، ولا تنزل به في بطن مسيل، يأتي سيل عارم ويتلف البضاعة، وإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت لي مالي وأنت مسؤول.
 هذه فيها أحكام فقهية سوف نوضحها بعد قليل، من حق صاحب المال أن يشترط على صاحب العمل شروطاً فإذا خالفها ضمن المال والخسارة، وعندئذ تقع وحدها على المضارب فقط لا على صاحب المال، والإمام البيهقي يروي:

((عن نافع رضي الله عنه أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يكون عنده مال اليتيم فيزكيه ويعطيه مضاربة ويستقرض فيه))

[البيهقي عن نافع رضي الله عنه]

 لأن النبي عليه الصلاة والسلام فيما ورد عنه اتجروا بمال اليتامى لا تأكلها الزكاة.

وجوب الزكاة على المال النامي :


بالمناسبة نحن نعلم أن الزكاة لا تجب إلا على المال النامي، وأصل المال لا ينمو، السلع مثلاً: بيت كان ثمنه عشرين ألفاً في عام خمسة وستين، اليوم ثمنه ثمانية ملايين فقد نما. أما الليرة فهي ليرة وما اختلفت، فالمال لا ينمو والذي ينمو البضاعة إذ تشتد الحاجة إليها فيزداد سعرها، فلماذا أوجب الله الزكاة في المال مع أنه لا ينمو بل بالعكس قد يتراجع؟ العلماء قالوا: أوجب الله الزكاة في المال لئلا يكنز، وإذا كنزه الإنسان أكلته الزكاة، أنت مسلم معك مال وخائف عليه، كل سنة تخرج اثنين ونصف بالمئة زكاته على أربعين سنة ينفد المال كله.
 إما أن تستثمره وإما أنّ الزكاة تأكل المال، فحكمة الشارع الحكيم من فرض الزكاة على المال ولو كان ورقياً لئلا يكنز، فيحرم منه الشاب الذي يتمنى أن يكون هذا المال معه ليعمل به.
 لكن يا ترى إذا الناس أساؤوا فهل يلتغي الشرع؟ لا، ثم لا، وإذا كان هناك أشخاص احتالوا وأكلوا أموال الناس بالباطل وكذبوا وأعطوا أرباحاً وهمية ثم أكلوا أصل المال، أنلغي الشرع؟
 هذه الأخطاء وقعت ولكن هؤلاء الأشخاص غير ملتزمين وليسوا منضبطين وليسوا ورعين، فإذا أخطأ الإنسان فهل يعطل الشرع؟ لا.

شركة المضاربة فيها تأمين حاجة أصحاب الأموال والأعمال :

 لم ينقل عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين أنه أنكر التعامل بالمضاربة.
 أهم ما في الموضوع أن شركة المضاربة فيها تأمين الحاجتين وتلبيتهما، حاجة أصحاب الأموال وحاجة أصحاب الأعمال.
 وأروع عمل يقول لك: ضربنا عصفورين بحجر، مثل عامي، العمل الرائع أن تحقق هدفين في عمل واحد، هناك أناس في أمس الحاجة إلى أن يكسبوا مالاً من أموالهم المجمدة، وهناك أناس لا يقبلون الصدقة وهم في أمس الحاجة إلى مال يعملون به.
 فإذا قلنا إلى هؤلاء ادفعوا إلى هؤلاء، ويا هؤلاء اعملوا وأعطوا هؤلاء، معنى ذلك هذا تشريع حكيم لبّى حاجتين متكافئتين في وقت واحد.

التجارة تحتاج إلى مؤمن صادق واستقامة و توفيق :

 لكن النبي الكريم قال:

((لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِنًا ولا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيٌّ))

[أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري ]

 بطولتك أن تبحث عن المؤمن الصادق، الذي لو قطعته إرباً إرباً لا يأكل قرشاً حراماً، ابحث عن هذا وادفع له المال، وخذ منه ربحاً حلالاً، وهو بنيته الطيبة يوفقه الله عز وجل.

((مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ ))

[ البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ]

 أخواننا التجار يعرفون مع الله لا يوجد أحد ذكي، يوجد تاجر موفق وتاجر غير موفق، أي أكبر تاجر وأذكى تاجر وأطول خبرة عند التاجر يمكن أن يريه الله عز وجل صفقة متألقة نيرة ويكون فيها إفلاسه، ويمكن أن يلهم الله التاجر المؤمن صفقة في نظر الناس عادية جداً يربح منها أرباحاً طائلة جداً. الأمر إذاً رهن توفيق الله، والتجارة تحتاج إلى استقامة وإلى توفيق الله فقط، لا تحتاج إلى ذكاء من أعلى مستوى.

ولو كانت الأرزاق تجري مع الحجا  هلكن إذاً من جهلهن البهائم
***

 ترى في المجتمع إنساناً شعلةَ ذكاء، لا يملك قرشاً في جيبه، وآخر على البساطة يأتيه المال جزافاً، من دون حساب، الرزق له قوانين.

أسباب زيادة الرزق :

1 ـ الاستقامة :

 نحن سابقاً تكلمنا بخطبة أو بخطبتين فيما أذكر عن أسباب زيادة الرزق وذكرت في وقتها الاستقامة والدليل قال تعالى:

﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾

[ سورة الجن: 16-17 ]

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾

[ سورة الأعراف : 96 ]

2 ـ الأمانة :

 الأمانة:

(( الأمانة غنىً ))

[ القضاعي عن أنس ]

 الإنسان الأمين موثوق، والموثوق تدفع له الأموال، ويعمل عملاً طيباً حلالاً، وينتفع وينفع.

3 ـ إتقان العمل :

 إتقان العمل عاملٌ للرزق:

(( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ))

[ الجامع الصغير عن عائشة ]

 
انظر إلى أصحاب الحرف ترى المتقن ليس عنده كساد، وغير المتقن عمله يقول لك: أعمل شهراً وأقف شهرين، ويقول: عندنا ركود وكساد، بينما المتقن عمله في نفس الوقت يقول لك: عندي عمل لشهرين قادمين، لماذا فلان يعمل قليلاً ويقف بلا عمل كثيراً وفلان دائماً عنده عمل؟ فالمتقن لا يشكو فتور السوق وعليه طلب كثير.
 أسمع عن بلاط كان الناس يوصون عليه من قبل سنتين، فمعمل البلاط لسنتين مشغول، عمله متقن، والعامل لا يمكن أن يبلط مع رفرفة، وميل صحيح.
 تلاحظ شركات ليس لها دعاية، لأنها ليست بحاجة إلى دعاية، إنتاجها نافق من دون دعاية، وعندما تبدأ بالدعاية فمعنى هذا أن عندها كساداً، وعلامة الكساد الدعاية، إذاً: الإتقان الشديد وحده هو دعاية.
 يا أخوان، بإتقان عملك تجعل كل زبائنك يدعون لك مجاناً، كن نجاراً متقناً فهذا الزبون يمدحك سنتين وهو لا يشعر، يقول: الله يوجه له كل خير، صنع لنا أبواباً جيدة، بينما رجل اشترى طقم جلوس فأول يوم فرح به ودعا الضيوف لبيته فكسر الطقم، فذهب إلى الذي باعه فقال له: الطقم انهار. فقال: الظاهر جلستم عليه.
 إنسان رأى عرقاً أخضر في غرفة النوم، فالخشب لم يجف بعد، أصابَتْه بعض القطرات من السقف فنبت عرق أخضر.
 تريد أن يثني الناس كلهم على بضاعتك فأتقن عملك، تجعل الناس يروجون بضاعتك وهم لا يشعرون، إذاً شركة المضاربة فيها دفع الحاجتين، تلبية حاجتين في وقت واحد.

نطاق المضاربة نطاق واسع :

 الآن نطاق المضاربة واسع جداً، يجوز أن تدفع مالك إلى اثنين أو إلى ثلاثة أو إلى أربعة، لا شيء يمنع أن تدفع مالك إلى اثنين أو إلى ثلاثة أو إلى خمسة، عندنا قاعدة: مثل غربي، إياك أن تضع البيض كله في سلة واحدة.
 
والتجار يقولون: اجمع عيالك وفرق مالك، أحياناً تكون مصلحة رائجة فإن كان كل ماله في هذه المصلحة، فربما بقرار تنتهي هذه المصلحة، مرة كنت في حمص هناك محلات عند موقف شركات الباصات تبيع بيعاً مذهلاً من طعامٍ وشرابٍ وسندويش، فلما نقل مركز الباصات إلى خارج حمص، العشرون محلاً أغلقت، فإذا كان المال كله في عمل واحد وصارت مشكلة توقف العمل، فتوزيع الأموال حكمة، فيجوز دفع الأموال إلى اثنين أو ثلاثة.
 إذا كان هذا مربحه أكبر نميل إليه، يجوز دفع المال إلى اثنين وأكثر مضاربةً، ويمكن أن تكون أنت شريك العمل وأن تأخذ أموالاً من أكثر من شخص، مشروعك أكبر من حدود شخص، قد تحتاج إلى مئة شخص أو خمسين فيمكن أن تدفع إلى أكثر من واحد ويمكن أن تأخذ من أكثر من واحد هذا يجوز في تشريع المضاربة.
 أحياناً أنت شريك مضارب ومعك مال أكثر من طاقتك، يمكن أن تضارب أنت به، تثق بإنسان عنده خبرة جيدة تدفع له هذا المال وتقول له: أنت مسؤول، إذا استأذنت صاحب المال فلست مسؤول، إن لم تستأذنه فأنت مسؤول، فالخسارة عليك، ممكن لِلْمضارب أن يضارب إذا كان حجم عمله لا يحتمل الكتلة النقدية التي معه، يمكن للمضارب أن يأخذ مضاربة أخرى، أي يأخذ من أكثر من إنسان لمضاربة واحدة ويأخذ من أكثر من إنسان لمضاربة ثانية فيقوم بمشروعين في وقت واحد.
 من الممكن أن تدفع المال لأكثر من مضارب، ومن الممكن للمضارب أن يأخذ من أكثر من إنسان، ويمكن للمضارب أن يضارب، ويمكن للمضارب أن يأخذ مضاربة أخرى لموضوع آخر.
 يمكن أن يكون رأس المال نقداً أو عروضاً، إنسان عنده بضاعة قال صاحبها: بع هذه البضاعة واجعل مالها مضاربة بيني وبينك، أو قيّمها وبعها مضاربة بيني وبينك، قد يضع إنسان بضاعة عند آخر بالأمانة كأن يضع عنده قماشاً ويقول له: بع هذا القماش والربح بيننا، شخص عنده محل ولا يملك بضاعة، وشخص مستورد يملك بضاعة كثيرة، أعطاه عشر صفقات وقال له: بع هذه الصفقات والربح بيني وبينك مناصفة.
 يمكن أن تأخذ مالاً ويمكن أن تأخذ بضاعة، يمكن أن تكون المضاربة في جميع أنواع التجارة المباحة، أي نوع من أنواع التجارة المباحة تجري فيها المضاربة.
 بالصناعة ممكن، وفي الزراعة والتجارة ممكن، وفي الخدمات ممكن، مكتب هندسي والمهندس لا يملك إلا اختصاصه يحتاج إلى مكتب، وإلى موظفين، جاء إنسان ممول، ممكن صيدلية، إنسان يحمـل شهادة صيدلة لكن لا يملك  المال، وهناك جهة موَّلت المحل والأدوية والتجهيزات والربح بينهما، ليس هناك شركات أوسع من المضاربة.

قواعد استنبطها العلماء في المضاربة:

 لكن هذه المضاربة ولئلا يستغل طرف الطرف الآخر، ولئلا يحيف طرف على الطرف الآخر، ولئلا يظلم طرف الطرف الآخر، هناك قواعد استنبطها العلماء، هذه القواعد تعد كالشروط بعضها برأس المال، رأس المال لا يستحق الربح إلا إذا سلمته، أنا واضع مبلغاً فماذا ربحنا؟ طبعاً هذا شرط بديهي.
 لا بد من تسليم رأس المال حتى يستحق الربح، ولا يستحق رأس المال الربح إلا من تاريخ التسليم، فمن قبل لا يجوز ومن بعد لا يجوز، فيه ظلم، ومن قبل لا يجوز فيه ظلم للمضارب.
 أعطاه المال في شهر نيسان قال له: أنا أريد الربح من أول السنة لا يجوز، من قبل لا يجوز ومن بعد لا يجوز.

شدة شروط صاحب المال تقيد الشريك و تقلل الربح:

 من حيث تصرف العامل يوجد عدة آراء: إذا دفعت المال للشريك المضارب، ولم تشترط عليه شيئاً، ولم تقنن له قانوناً، ولم تحظر عليه محظوراً، فأنت مسؤول عن كل تصرفاته، أما إن قلت له :أنا لا أوافق على أن أشتري بضاعة غير نظامية، فإن اشترى بضاعة غير نظامية وصودرت فهو مسؤول وحده عن ذلك، إذا خالف المضارب تعليمات صاحب المال يصبح ضامناً أي مسؤولاً.
 يجوز أن تشترط ويجوز ألا تشترط، إن كان لك ثقة كبيرة في هذا المضارب لا تقيده، تعرفه من حكمته وعقله الكبير وذكائه وورعه أنه يختار الشيء المناسب لهذا المال، أما إن كنت تعرفه طائشاً فاحذر.
 ذهب مفتش في التعليم الابتدائي إلى قرية من قرى محافظة ريف دمشق، ودخل إلى صف وسمع درس المعلم اللطيف، وأحب أن يتقرب من الطلاب فسأل طالباً: أنت يا بني ماذا تحب أن تكون عندما تكبر؟ هل تحب أن تكون طياراً مثلاً أو مهندساً؟ فقال له الطالب: مهرب، أستاذ.
 إذا أنت اشترطت على المضارب ألا يشتري بضاعة غير نظامية واشترى فهو مسؤول، ممكن لك أن تشترط ألا يتعامل بنقد غير سوري، يوجد قوانين قاسية لمن يتعامل بنقد غير سوري، عشرون سنة في السجن أحياناً فأنت ليس لك مصلحة، وأنت كصاحب مال عليك أن تقول: هذا ممنوع وذاك ممنوع، والمال يبقى في سوريا ولا يخرج خارج القطر، لا يجوز لك استثمار عن طريق العملة لأن هذه ممنوعة، بضاعة غير نظامية مرفوضة فأنت لك حق أن تشترط، وإذا لم تشترط معنى هذا أن لك ثقة كبيرة في هذه الجهة من حيث العلم والحكمة والورع...
 طبعاً هناك شروط قاسية جداً، والشروط إذا اشتدت قيدت شريك العمل وقللت فرص الربح، إذا قال له مثلاً: بأية لحظة أطلب المال تقدمه، فهذا كلام فارغ، اشترى فيه بضاعة وليس معقولاً أن يعطيك المال في أية لحظة، فإن كان المال لا يعمل معنى هذا أنه أعطاك ربا، إذا مالك في الصندوق وبأي لحظة يدفعه لك فمعنى هذا أن المال لم يربح وأعطاك ربحاً خلبياً وهمياً.

صاحب المال ليس مسؤولاً إلا في حدود المال :

 عندنا حكم خاص: إذا المضارب خالف تعليمات صاحب المال بعضهم يقول: يضمن الخسارة ولا يأخذ شيئاً من الربح، إن ربح فلصاحب المال وإن خسر فعليه تأديب له لأنه خالف تعليمات صاحب المال.
 
لو فرضنا أن هذا المضارب أعطاه مليوناً أو نصف مليون، فذهب واشترى بضاعة بعشرة ملايين ولسبب أو لآخر البضاعة تلفت أو هبط سعرها فجأة وعليه التزام دفع عشرة ملايين، فالشريك المضارب عليه أن يدفع هذه الخسارة الكبيرة، صاحب المال ليس مسؤولاً إلا في حدود المال الذي دفعه إليه، أما أن تحمله أكثر من حجمه فلا، وهذه يسمونها: توصية شركة بسيطة، صاحب المال ليس مسؤولاً إلا في حدود المال.
أعطاك مئة ألف فعملك ضمن المئة ألف، فأية خسارة تزيد على حجم المال كله فصاحب المال ليس مسؤولاً عنها، لا يسأل إلا في حدود رأسماله الذي دفعه إليك.
 الآن أكبر مشكلة في التجارة، أن يعمل التاجر بعشرة أضعاف حجمه المالي، فأحياناً تقع هزات فوق طاقة الاحتمال، معه مبلغ تدين عشرة أمثاله، واشترى صفقة وفي نيته أن يسترد ربحها أضعافاً مضاعفة، الصفقة لم تبع أو صودرت أو نشأ منها مشكلة.
 صار معرض خارج سوريا وهؤلاء التجار اجتهدوا، وأرسلوا بضاعة كبيرة جداً، بينهم تاجر حتى يمرر أكبر كمية بضاعة ممكنة وضع الأسعار: العُشر في الفواتير، والقصد أن يبيع البضاعة ويربح أضعافاً مضاعفة، مسموح للتاجر فرضاً بمبلغ ثلاثمئة ألف ليرة والقصة قديمة، هؤلاء التجار حتى يخرجوا بضاعة بمبلغ مليوني ليرة أعطوا أسعاراً لبضاعتهم على الفواتير بقيمة العشر، ووضعوا ضمن البضاعة تهريبات كبيرة جداً، القطر الآخر الذي كان سوف يقام فيه المعرض قال: أنا سوف أشتري البضاعة بفواتيرها، فكل شيء ضمن البضاعة وفيها مهربات خيالية، راحت البضاعة كلها بمبلغ عُشر ثمنها، فلو فرضنا أن هذا استدان عشرة أضعاف رأسماله ما الذي حلّ به؟ العاقل الذي يعمل ضمن حدود رأسماله، أما أكثر فقد تقع هزات لا تحتملها.
 خذ من الدنيا ما شئت وخذ بقدرها هماً، ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر.

نفقة العامل :

 بقي موضوع نفقة العامل: وهو موضوع خلافي أيضاً، شريك العمل إذا سافر، أكثر العلماء قالوا: إن مصروف الطعام والشراب والمبيت وغسل الثياب من حساب شركة المضاربة، أما في بلده فطعامه في بيته.
 لكن هناك لفتة لطيفة قالوا: فأيام سفره لم يبع شيئاً، ولا أحضر بضاعة، فيدفع شريك المال نفقات السفر والإقامة في الفنادق، ولكنه إذا أكل في مطعم على البحر وبذخ فلا يجوز أن يعمل هكذا، فالشركة لا تتحمل هذه النفقة، فموضوع النفقة موضوع خلافي، بعضهم أجاز نفقته في بلده، وبعضهم منع النفقة كلياً، وبعضهم وقف موقفاً متوسطاً قال: في السفر نعطيه لنفقة الطعام والشراب وغسل الثياب الحد الأدنى إن احتمل العمل ذلك، وأحياناً يبيع بحجم كبير ويقبض أموالاً كثيرة والشركة تتحمل هذه النفقات.
 قالوا: إذا خرج المضارب إلى سفر بماله ومال شريكه فالنفقة بينهما وليس كلها عليه، قد يقول لك: أنا سوف أبيعك مرابحة اكشف الفواتير، قد يكون سافر إلى أوربا وسافر إلى إجراء ثلاثين صفقة ومعها سياحة وضع كل نفقات الفنادق والطعام على حساب صفقة واحدة ويقول هذه هي التكلفة: كلفنا السفر ثلاثمئة وخمسين ألفاً.
 هذا كذب وأنت أحضرت ثلاثين صفقة وعملت سياحة أيضاً، فهذه تحتاج إلى تقوى، الإنسان إذا لم يتقِ الله عز وجل فالله يتلف له ماله.

(( مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَها يُرِيدُ إِتْلافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ ))

[البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]

ما يتعلق بالأرباح والخسائر :

 الأرباح والخسائر هذه بين صاحب المال وصاحب العمل وهو بالاتفاق، المسلمون عند شروطهم، هناك أعمال مركز الثقل فيها الجهد، ممكن أن نأخذ لرجل محلاً خارج دمشق بدون فروغ، ونأخذ له عُدة تصليح سيارات بعشرة آلاف ونقول له: اعمل، يأتيه محرك يعمل به بجهده، وعضلاته، وخبرته، ليس من المعقول أن نقول له: نصف للمال ونصف للجهد، بل يأخذ للجهد ثمانين بالمئة لأن المال قليل جداً والجهد كبير جداً.

نفتح محلَ بيعٍ فقط ليس فيه جهد كبير، والبضاعة كلها مسعرة، والمحل مكلف ملايين، ضع فيه شريكاً مضارباً يكفيه بالمئة ثلاثون أو خمسة وثلاثون، فكل مصلحة لها عرف، بعض المصالح تستدعي خمسين بخمسين، وبعضها ثمانين بعشرين، المرجح هو الجهد. هل الأصل والأساس للجهد أم للمال؟ هذا يعرفه أصحاب الحرف وأصحاب المصالح وهذا بالاتفاق.
 المسلمون عند شروطهم، لكن لا يجوز أبداً أن يأخذ صاحب المال ربحاً ثابتاً وإلا انقلب إلى ربا، له نصيب ثابت وليس ربحاً ثابتاً، يقول له: أريد خمساً وثلاثين بالمئة نصيب ثابت، أو أريد خمسين بالمئة، وفرق كبير بين الربح والنصيب، النصيب مشروع أما الربح فلا يجوز لأنه صار ربا.
 أما الخسارة فهي على صاحب المال وحده لأن هذا شريك الجهد، خسر جهده، عمل سنةً مجاناً وأكل بالدين، الخسارة على صاحب المال، إلا في حالتين إذا كان هناك عدوان أو تقصير أو مخالفة للتعليمات فالخسارة يتحملها شريك الجهد وهو ضامن ومسؤول.
 أنا لا أقدم لكم تعليمات تفصيلية، أقدم لكم الأشياء الأساسية في هذا الموضوع، لأن الدرس ينتهي مع انتهاء هذا الموضوع.

ما يفعله الإنسان في حلّ شركة المضاربة :

 الآن أردنا حل هذه الشركة ولدينا بضاعة، لو قلت لامرأة عمرها ثمانون سنة واضعة معك المال: تعالي وخذي القماش، أموالك أصبحت قماشاً، وهي لا تستطيع أن تبيع القماش، التعليمات أو الأصول الشرعية ينبغي أن تقلب البضاعة إلى مال ثم تردها إلى صاحب المال، أعطاك مالاً تعطيه مالاً، أما أن تقول: تعال وخذ بضاعة فلا.
 أما لو فرضنا شريك المال تاجر مقتدر، وأحب أن ينوع أعماله، ووضع معك مالاً، وهذه البضاعة تلزمه، فممكن أن يبيعها ويربح بها فتعطيه بضاعة عندئذ.
 هل من المعقول أن تكلف إنساناً ليس له خبرة تجارية وتعطيه بضاعة؟ هذا ظلم شديد، وأحياناً بالعكس البضاعة غالية جداً تقول له: انتظر حتى أبيعها، ويمكن أن تباع الآن ولكن عليك أن تنتظر فترة أطول، وفي بعض الأحوال صاحب المال يُظلم أو صاحب الجهد يُظلم فلا بد من العدل بينهما، الأكمل أن تدفع لصاحب المال ماله والربح بينك وبينه.
 لو فرضنا عقد المضاربة كان فاسداً فماذا نعمل؟ ينقلب الشريك المضارب إلى أجير يأخذ أجر المثل والربح كله لرأس المال.
 كما قلت قبل قليل: هذه الأحكام المتعلقة بالمضاربة أحكام إجمالية وأحكام غير تفصيلية، لكن القصد من هذا الموضوع أن في الإسلام الحل لكل مشكلة قائمة في كل مجتمع إنساني، إنسان معه مال لا يستطيع استثماره يود أن يعيش منه يدفعه إلى إنسان يملك الطاقة ولا يملك المال هذا يكمل هذا، وحاجتان أساسيتان تلبيان في عقد واحد.

تدابير احترازية :

 بقي من الدرس الماضي فكرة أود أن أعرج عليها حتى يكون الموضوع تاماً، نحن حينما تحدثنا عن القرض الحسن في الدرس الماضي وصلنا إلى أن هناك تدابير احترازية تُلزم المقترض أن يدفع للمقرض ماله، من هذه التدابير منعه من السفر، ومن هذه التدابير حبسه، ومن هذه التدابير الحجر عليه ومنعه من التبرع بماله، هذه كلها من التدابير الاحترازية.

مساعدة المدينين لأداء ديونهم :

 آخر موضوع بعد عقوبة حبس المدين، مساعدة المدينين لأداء ديونهم، أروع ما في الشرع أن الله سبحانه وتعالى شرع لنا في الزكاة مصرفاً هو مصرف الغارمين.
الغارمون هم أصحاب الديون التي لا يطيقون وفاءَها، هؤلاء يجب لهم في الزكاة ما يغطي لهم هذه الديون، هذه نقطة دقيقة جداً قال تعالى:

﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾

[ سورة التوبة : 60]

 الغارم هو الذي ركبه دين لا يستطيع أن يؤديه، الإمام القرطبي يقول:
 "الغارمون هم الذين ركبهم الدين ولا وفاء عندهم به ولا خلاف فيه، إلا من اقترض في سفاهة فإنه لا يعطى منها".
 يقول المزكي: ماذا عليك من دين؟ يقول الغارم: ثلاثة آلاف، لماذا استقرضتهم؟ يقول: ذهبنا إلى اللاذقية للتنـزه، واشترينا فيديو، الدين في سفاهة لا يمكن أن يؤدى من الزكاة، يكون الدَّين مشروعاً لسبب جوهري كعملية جراحية، ترميم بيت يكاد ينهار مثلاً.

(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ))

[مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]

شروط دفع الدَّين عن الغريم من بيت مال المسلمين:

 صاحب الدَّين المشروع يجوز أن يأخذ من أموال الزكاة، إذا لم يتقدم أحد فماذا نفعل؟ إنسان غارم عليه دين لا يطيق وفاءه، وما أحد تقدم، وهناك أزمة ولا توجد سيولة نقدية بين أيدي الناس، الشرع قال: بيت مال المسلمين متكفل بأن يحمل عن هذا الغريم دينه، لكن العلماء قالوا: لا يدفع بيت مال المسلمين الدين عن الغريم إلا في شروط: أن يكون هذا الدين لسبب معقول، وجيه وأساسي، عمل جراحي، آلة ليأكل منها، وأن يكون صاحب الدين قد بذل كل جهده في تأدية الدين فلم يستطع، فدينه على بيت مال المسلمين ليوفي دينه، و أن يوجد في بيت المال مال، فيمكن حينئذ أن يلبي بيت المال حاجة المدين.
 عندنا قاعدة أساسية: لا تركة إلا بعد أداء الدين، شخص ترك بيتاً وترك سيارة ومحلاً تجارياً، هذه ليست تركة إلا بعد أن تؤدى ديونه، ما لم تؤدّ ديونه فهذه ليست تركة، والدين يؤخذ من رأس المال، قال تعالى:

﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾

[ سورة النساء: 12]

 كما قال العلماء: لا تركة إلا بعد أداء الدين، حجم التركة التي تركها الميت هو المبلغ المنقول أو غير المنقول بعد أداء ديونه لعظم الدين، فالدين يؤخذ قبل كل شيء ولو استغرق التركة كلها، ولو عنده أيتام، أصحاب الأموال مفضلون.